Home » مناهضة استعمار الإنتاج المعرفي نقد لممارسات ترجماتية

مناهضة استعمار الإنتاج المعرفي نقد لممارسات ترجماتية

يمثل هذا المقال توثيقاً شخصياً للمراحل الفكرية التي مررت بها، ليشكل نقداً ذاتياً لممارسات ترجماتية وممارسات إنتاج معرفة اعتدتها واكتشفت إشكالياتها فيما بعد. كأكاديمية نسوية أشدد على أهمية أخذ تقاطعية التجارب بعين الاعتبار، لإيماني بأهمية الانطلاق من التجربة الشخصية. وبالتالي، أسعى في هذا المقال إلى فتح باب نقاش يختص بالممارسات العملية لترجمة المعارف في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية تحديداً، بشكل يقوض من أثر ويناهض الاستعمار الفكري المفروض على مناطقنا. أعتبر الترجمة، كما تشير لها الأكاديمية منى بكر (٢٠٠٥) في أحد مقالاتها تحت عنوان “روايات في وعن الترجمة”، عملية نقل ثقافي سواء كانت على مستوى ترجمة الكلمات أو على مستوى ترجمة وتطبيق أطر معرفية نظرية على سياقات أخرى. ويلقي المقال الضوء على أمثلة مختلفة من ممارسات ترجماتية إشكالية، ليشكل هذا النقد جزءاً من الإطار الفكري الذي تمت من خلاله عملية تصور مشروع معجم مساحة- معرفة نسوية متاحة.

أتطرق لهذا النقد كقصة ورحلة عملية وفكرية شخصية، إذ بدأت حياتي العملية في الترجمة ما بين العربية والإنجليزية، ولم يتجاوز عمري التسعة عشر عاماً. كنت في وقتها طالبة بالأدب الإنجليزي في الجامعة الأردنية. لم يكن من السهل وقتها التعامل مع أساليب التعليم التلقينية والتي لم تتح مجالاً للنمو المعرفي والفكري النقدي لدى الطلاب والطالبات. ولكن لن أنكر فضل الدكتورة الراحلة رولى قواس التي دفعتنا بعض الشيء نحو النقد الاجتماعي النسوي، وإن كان ليبرالياً في دعوته للتحرر بشكل يمركز سياقات دول عالم الشمال، لا سياقاتنا المحلية. ولن أنكر فضل الدكتور الراحل عصام الصفدي الذي وضح لنا ببراعة أهمية أخذ السياقات الاجتماعية بعين الاعتبار عند محاولة فهم ما يسمى بالفكاهة العامية. نبهنا المعلم البارع عصام، أن حس الفكاهة يختلف باختلاف الثقافات، وأنه من المستحيل في بعض الأحيان ترجمة الهزل من لغة إلى أخرى. فكيف لنا إذاً ترجمة المعارف والأدبيات بدون أخذ سياقاتها بعين الاعتبار؟ لربما يبدو ذلك بديهياً لغالبيتنا، ولكن تلك البديهية، للأسف، لم تمتد إلى ممارساتنا الترجماتية فيما يخص، على الأقل، المعارف التي تهمني أكاديمياً وتحديداً الدراسات العرقية والجندرية والجنسانية والطبقية والعلوم الاجتماعية والسياسية بكافة أشكالها في المنطقة الناطقة باللغة العربية. لا، وبل خدمت ممارساتنا تلك المخيلة والمصلحة الاستعمارية في المنطقة، إذ جعلت تلك الترجمات من منهجيات التفكير (الإبستمولوجية) الاستعمارية منهجيات مُثلى، وقدوة يقتدى بها. ولذلك أصبحنا نقرأ في غالب جامعات منطقتنا ترجمات منقولة عن علماء نفس واجتماع وجغرافيا وتاريخ وغيرها من الغرب. كنا نواجه صعوبات كبيرة عند قراءة تلك الترجمات، إذ بدت للكثيرين منا نظرية، بعيدة عن الواقع وغير واضحة.

وبعد معاناة مع أساليب التعليم أو (البيداغوجية) المتبناة على يد غالب الأساتذة والمربين/ات والمناهج المترجمة، تراجم جيدة، ولكن منقولة حرفياً عن أطر فكرية بعيدة عن واقع حيواتنا، قررت الالتحاق بجامعة في المملكة المتحدة لمتابعة دراساتي العليا في الدراسات الإثنية والعرقية. إذ بدأ اهتمامي بالدراسات العرقية، بعد قراءتي لتوني موريسون وغيرها من الأدباء والأديبات الأفارقة والسوداوات الأمريكيين/ات تحديداً. كان الأدب الملون والأدب النسوي هما المفضلين لدي، كنت أشعر أنه الأقرب إلى واقعي على الأقل. أذكر الصعوبة التي واجهتها، عندما بدأت الدراسات العليا في المملكة المتحدة، في فهم النظريات الاجتماعية النقدية التي طرحتها المناهج لم تصعب عليّ لغوياً، ولكن صعب علي تطبيقها على الواقع والخطاب السائديّن في منطقتنا الناطقة باللغة العربية. ولكن كانت تلك هي اللحظات التي جعلتني أدرك أن الإنتاج المعرفي هو أمر سياسي، وكذلك هي التراجم المعرفية.

مع تعمقي في الدراسة والبحث، تحديداً بحثي عن أسماء تشابه اسمي في مكتبات الجامعات البريطانية الضخمة، تعثرت بكم ضخم من الأدبيات يُسمى بدراسات ما بعد الاستعمارية، أو دراسات ما بعد الكولونيالية أو الدراسات البوست كولونيالية. قبل تصادمي بتلك الأدبيات، كنت قد أشبعت بالدراسات التي تعنى بالدول الناطقة باللغة العربية التي لم تضف لي شيئاً معرفيّاً، إذ كانت في غالبها وصفية لأوضاع النساء ولواقع المنطقة ولتجارب والممارسات المختلفة فيها، دون تحليل أو تنظير أو استنتاجات. كان من الصعب علي، عند بداية بحث الدكتوراه إيجاد “إطار نظري”، يمكنني من خلاله موقعة البحث كإنتاج معرفي مبتكر. لم أجد إطاراً نظرياً ملائماً ولم أجد الكثير من الأدبيات المتعلقة بالأعراق المختلفة الموجودة في المناطق الناطقة باللغة العربية. بدا لي وقتها، أن تصويراتنا في المخيلة الاستعمارية تظهرنا وكأننا مجموعة من الأشخاص المتجانسين للغاية، ذوي حيوات متشابهة، لا فروق بيننا، وأننا لسنا “متحضرين” كفاية، ولذلك يلقى علينا المجهر لفهم شذوذنا عن القاعدة التي حددها الاستعمار أيضاً. وعلى ذلك، وفي منطقهم العنصري: فما من داعٍ لخلق أطر فكرية مناسبة لنا، فنحن بعيدون/ات كل البعد عن ثقافة المستعمِر الرفيعة التي وصلت حداً من التطور يسمح لها بالتنظير ويترك لنا التوصيف. اعتقدت أنّني أُجابه تلك النظرة الاستعمارية من خلال دراستي لموضوع تحليلي ناجم عن اهتمام شخصي، إلى أن اكتشفت أنه عن طريق تحليلي للبحث، تبنيت النظرة الاستعمارية ذاتها التي كنت أحاول مجابهتها. حين قررت دراسة الشركس في الأردن، كان دافعي فهم العنصرية التي يتعرض لها الفلسطينيون/ات في الأردن عبر فهم تجربة أقلية عرقية كانت تعتبر إلى حد كبير مندمجة في إطار الدولة. ولكن وفي إطار الأكاديمية الغربية التي دفعتني للتوصيف، وجدت نفسي أعيد إنتاج الإطار الفكري ذاته الذي سعيت لمناهضته.

أذكر محادثة قمت بها مع زميلة بلا لون[1] من أصول بريطانية في برنامج الدكتوراه، بينما كنا في خضم نقاش المراحل التي وصلناها في كتابة الأطروحة، سألتني زميلتي غير الملونة: هل حددت الإطار النظري لأطروحتك؟ تلعثمت قليلاً ولم أعرف كيف أجيب على هذا السؤال. لأنني لم أحدده. لم أكن قادرة على استخدام النظريات المتعلقة بالعرق والإثنية المتاحة لي. وحين شعرَتْ بارتباكي، نبهتني إلى أنه يجب عليّ تحديد إطار نظري وإبستمولوجية للإنتاج المعرفي، لكي أحصل على شهادة الدكتوراه. لم يكن ذلك النقاش مثيراً للقلق فحسب، بل شعرت بأن عملي محكوم عليه بالفشل، وبالتالي ألقيت اللوم على نفسي لعجزي عن إيجاد إطار فكري، ومن شدة هلعي سارعت إلى تحديد موعد عاجل مع مشرفة بحثي في الدكتوراه، التي طمأنتني وقالت لي حرفياً: لم يدرس كثر موضوعك، ولذلك يعتبر وصف الأوضاع بدون إطار فكري محدد مساهمة فكرية أصيلة فلا تقلقي. لم تكن في تلك الطمأنينة اللحظية التي شعرت بها، إجابة لتساؤلاتي، بل بدأت حينها أشعر بالملل من الموضوع الذي اخترت دراسته. حاولت عدة مرات اقتراح إنتاج إطار فكري بديل يلائم موضوعي، ولكن رُفضت كل محاولاتي تلك من قبل مشرفات رسالة الدكتوراه، وكنت أدفع كل مرة نحو التوصيف.

لم يكن التوصيف مشبعاً فكرياً أو مثيراً للاهتمام. فقد شعرت، في غالب الأحيان، أنّه ليس إلا ترجمة للواقع الاعتيادي إلى لغة أخرى هي لغة المستعمر. بينما كتبت مراراً وتكراراً ووصفت وترجمت ما قال المشاركون/ات في البحث، كنت أحصل على ردود فعل إيجابية وتصفيق وترحيب واحتفاء بالمعلومات “الجديدة” التي يضيفها بحثي للأكاديميا في جامعات الغرب. وبينما كنت أتحدث عن موضوعي البحثي واستنتاجاتي، لم يكن لها الصدى نفسه مع المعنيين/ات الأساسيين/ات في البحث، وهم المشاركون/ات في بحثي. كانت تلك المعارف واقع حياة بالنسبة لهم/ن، ولم تضف تلك المعارف شيئاً جديداً يمكنهم/ن الاستفادة منه فكرياً. بل كانت تلك المعارف التوصيفية الترجماتية التخبيرية مفيدة للمخيلة الاستعمارية، في حين كنت أعتقد أنني عن طريق دراستي، أزيد من وعي العامة بواقع أقلية إثنية في الدول الناطقة باللغة العربية، كانت نظرتي استعمارية وترجمتي استعمارية، جمهورها غربي ومن خارج تلك الأقلية. كانت دراستي قد خدمت مخيلتي ومخيلة المستعمر بذات الوقت، ولم أكن قد وعيت حينها بمدى إشكالية تلك النظرة التي كنت مؤمنة أنها بوست كولونيالية أو ما بعد استعمارية، إذ اعتقدت أن بحثي يعتبر رداً فكرياً (أيديولوجياً) على الفكر الاستعماري ومخيلته وتمثيله وتصويراته للشعوب التي استعمرها. اعتقدت أنني إذا ما فندت النظرة الغربية القائلة أن حيواتنا في الدول الناطقة باللغة العربية متشابهة، من خلال بحثي، فإنني بذلك أجابه نظرة استعمارية عبر توصيف حياة أقلية عرقية موجودة لدينا في المنطقة المتكلمة باللغة العربية. في واقع الأمر، ما حصل هو أنني كنت أدرس تلك الأقلية بنظرة استعمارية. وهذا ما جعلني أعي أنه من المستحيل خلق معارف أصيلة مفيدة لأي شعب من دون أن تكون المرجعية الفكرية أصيلة وبلغة ذلك الشعب، تبني على أطره الفكرية ولا تجعل منه موضوع الدراسة المحوري، وحينها أدركت مساوئ الأدبيات البوست كولونيالية، التي وإن كانت تحاول مجابهة الفكر الاستعماري، إلا أن نقطة انطلاقها تبدأ من معارف استعمارية لا تبني على الإطارات الفكرية والخطابات الموجودة في المنطقة وفي اللغات المحكية والمكتوبة للمنطقة.

ومن هنا بدأت أفهم أن مناهضة استعمار الإنتاج المعرفي تتطلب منا أيضاً تحقيق الإنتاج المعرفي باللغات المستخدمة والبناء على الخطابات الموجودة للشعوب الأصلية، والابتعاد عن جعل مرجعيتنا الأيديولوجية مرجعية غربية استعمارية. وعلى ذلك، على الدراسات الديكولونيالية أو المناهضة للاستعمار التوقف عن موقعة عملها مقابل الاستعمار، بل عليها أن تجذره في المحلي والأصلي والسائد، بشكل يسعى للارتقاء بالأطر الفكرية في المنطقة ذاتها، لا توعية المستعمر على خطاياه وحسب. واستجابة لتلك الحاجة قامت عدة مبادرات فكرية ناشئة على إنتاج المعارف باللغات الأصيلة، إلا أن معظم تلك المبادرات ما زالت تصارع في الوصول إلى طرق معرفية بديلة، إذ أنها تبني على الخطابات الفكرية السائدة والمعارف المستندة إلى طرق معرفية (إبستمولوجيات) غربية، غير متاحة إلا إلى النخب الناطقة بلغتين أو أكثر. مما خلق فجوات فكرية باللغة العربية، لا يمكننا التغلب عليها إلا من خلال أساليب بديلة للترجمات الفكرية. ويعنيني في هذا المقال تحديداً كلمة أساسية لا بد من سد فجواتها المعرفية إذا كنا نسعى إلى طرح خطابات اجتماعية وسياسية وفكرية بديلة وهي كلمة العرق (race).

لفت انتباهي في العام الماضي طرق استخدام كلمة عرق ومشتقاتها وما يبنى عليها من فكر في الإنتاج المعرفي باللغة العربية من خلال ردود الأفعال على فيديو المغنية اللبنانية ميريام فارس الذي وصفته النخب الناطقة بلغتين أو أكثر بعدة كلمات منها blackface أو تسويد الوجه وcultural appropriation أو الاستيلاء الثقافي. بينما لا يمكننا تجاهل إشكاليات الفيديو، إلا أن هذا النقد وإلى حد كبير استند إلى مصطلحات لها صدى وخطابات بلغات أخرى غير العربية، وأن هذا النقد إن كان هدفه الارتقاء الفكري للحد من ظواهر عنصرية لم يستند إلى الخطابات الموجودة محلياً وباللغات الأصيلة ولذلك بقي مجوفاً ولم تستقبله وتتبناه إلا النخب الناطقة باللغتين، أو المطّلعة على الأدبيات في الدراسات العرقية بلغات أخرى. فلو أخذنا تاريخ تطور المصطلحين واستخدامهما لوجدنا أنهما استخدما أساساً لوصف أنواع من التمييز المبني على العرق (racism) التي مارسها العرق الأبيض، أو غير الملون، تحديداً من خلال تجارة العبيد ذوي/ات البشرة الداكنة. وعلى ذلك فقد بنى الملونون والملونات في الغرب هذا النقد على تلك الممارسات المحددة التي أصبح لها معاني سلبية باللغة الإنجليزية على سبيل المثال. إلا أن تلك المعاني السلبية لا تتوارد إلى خاطرة القارئ/ة العربي/ة، إذا لم يكونوا مطّلعين/ات على الخطاب الذي تم بناؤه أساساً في لغة أخرى. كانت المعاني السلبية التي ألقيت على تلك الممارسات نتاج حراك سياسي فكري مناهض للتمييز المبني على العرق في الدول البيضاء أو ما يسمى بدول عالم الشمال، الذي استمر قروناً عدة، ولم يتواجد حراك مشابه في منطقتنا لكي نتمكن من نقد الفيديو باستخدام تلك الكلمات وحدها، فعلى أرض الواقع تبقى تلك كلمات خاوية من المعاني لا أثر لها، إلا ضجيج فكري ما بين النخب. ولذلك إن كنا نسعى إلى النقد الذاتي، فلا يمكننا ذلك إلا عبر تفكيك تلك الكلمات من خلال ممارساتنا الترجماتية وإذا ما واجهنا مصطلحاً مشابهاً، علينا التحقق لا من دقة الكلمات الوصفية وحسب، وإنما من المعاني الاجتماعية المرتبطة بتلك المصطلحات وتزويد القارئ/ة بتاريخ المصطلح باللغة المنقول عنها. ويتطلب هذا من المترجم/ة مجهوداً أكبر، ولكن أثر ذلك المجهود على سد الفجوات المعرفية لا يقدر بثمن.

بالإضافة إلى الفجوات المرتبطة بتلك المعاني السلبية التي ارتبطت بتلك الممارسات العنصرية، فإن تلك الممارسات لها تاريخ استعماري واستعبادي مرتبط تحديداً بالسياقات التي حصلت فيها، ولا يمكننا تطبيقها بشكل لا يأخذ سياقاتنا بعين الاعتبار. فإن رغبنا بنقد الفيديو بشكل يبني على الخطابات العرقية السائدة، يجب أن تكون مرجعيتنا المعرفية اللغة السائدة في المحل وكذلك التاريخ العنصري وتاريخ العبودية المحددين في المكان، دون استعارة مصطلحات ترتبط بمراحل تاريخية لم تعشها منطقتنا بذات الشكل أو المنطق. فلا يوجد تاريخ ممنهج لممارسات مثل تسويد الوجه أو الاستيلاء الثقافي في الثقافة المرتبطة باللغة العربية. وإنما يوجد تاريخ ممنهج لممارسات أخرى علينا تفكيكها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً لنتمكن من نقدها بشكل بناء. فعلى سبيل المثال، لا يوجد لكلمة “عرقنة” المستخدمة كمرادفة لكلمة racialisation نفس الصدى بالعربية والإنجليزية، وإذا رغبنا بالبناء على الدراسات العرقية علينا الخوض بتفاصيل تلك العملية وفهمها في إطارنا اللغوي الذي يعكس السيرورات التاريخية الخاصة بمناطقنا، وألا ننسخها كمرادف، إذ بنسخنا لها نزيد من الفجوات المعرفية الثقافية والطبقية الموجودة في بلادنا ونقوض من قدرتنا على خلق أطر فكرية خاصة بنا، تعكس سياقاتنا التاريخية والحالية والمرجوة للمستقبل. فلا تاريخ العبودية ولا معانيها ولا إطارها ولا منهجيتها ولا ظواهرها متشابهة ما بين الدول الناطقة باللغة العربية والغرب المستعمر. ولا أقصد هنا تفنيد الحاجة للخلق والإبداع والتجديد في اللغة، وإنما تحديداً أنتقد منهجية النقل اللغوي دون فهم السياقات والتأريخ المحليين تلك. ومن المهم هنا التنويه إلى أن هذا النقد لا يشكل دعوة للعودة إلى تراثٍ بالٍ، وإنما يشكل إطاراً نظرياً لفهم النقل بين اللغات لأهميته في تغيير الخطاب الاجتماعي السائد. فعلى سبيل المثال، عندما نعرض على القارئ/ة العربي/ة النظريات العرقية الغربية لن نتمكن من التخفيف من عنصريته/ا إذ إن ذلك التوصيف بعيد كل البعد عن واقعه/ا وثقافته/ا ومعتقداته/ا ولا يمت له/ا بصلة. وبينما يزودنا هذا المثال بالفجوات المعرفية المرتبطة بالعرق باللغة العربية، يمكننا استشفاف المزيد من الفجوات من كلمات مثل الجندر والجنسانية والإبستمولوجيا وغيرها من المصطلحات التي تحمل معها فجوات لا معارف.

ومن تلك الكلمات المصطنعة والتي لا تحمل في صلبها أي معنى مرتبط باللغة العربية، ما اصطلحته صفحة خرابيش نسوية، وأعلنته ككلمة مستحدثة، وهي كلمة “التفسيج”. عدا عن اللغط الأساسي الذي يعكس عدم فهم القائمات على الصفحة للفارق ما بين علمي الإعراب والتصريف، ففي تقديمهنّ لترجمة كلمة mansplaining، التي تصف قيام الرجال بالتنظير على النساء على أساس زعمهم المعرفة الكلية والإلمام بمعارف بعيدة كل البعد عن النساء، استندوا إلى المفردة الإنجليزية بدلاً من التفكر بمرادفها باللغة العربية. فقد قدمت تلك المجموعة الترجمة وكأنها عملية نحت للكلمات، أي نحت كلمة جديدة من كلمتين. لكن عادة ما يعتمد نحت الكلمات في قواعد اللغة على كلمتين في أصلهما العربي. وبالرغم من ذلك، فقد قررت الصفحة نحت الكلمة من خلال تكسير الكلمة باللغة الإنجليزية إلى كلمتين هما man (رجل) وexplain (تفسير)، لتخرج بكلمة “تفسيج”. فأخذت القائمات على الصفحة على عاتقهن تجاهل القواعد اللغوية وتجاهل معنى التفسيج الموجود في اللغة العربية أصلاً والتي تصلح لوصف ظاهرة احتلال الرجال للمساحات من خلال فتح أرجلهم، إذ تعني كلمة التفسيج في اللغة العربية بحسب قاموس المعاني، فتح الرجال ما بين أرجلهم للتبول. وعليه، إذا صلحت لترجمة كلمة في اللغة الإنجليزية فستكون تلك كلمة manspreading. تجعل تلك الترجمات المغلوطة من لغة أجنبية المرجع الأساسي لوصف ظواهر ذكورية تتعرض لها النساء. ومن الأجدى في تلك الحالة أن نطّلع بلا تهاون على الأدبيات والخطابات الموجودة في اللغات المحلية قبل أن نسعى إلى صياغة كلمات جديدة. ولا يعني سعينا في البحث هذا تجاهل اللغات المحكية أو اللجوء إلى كلمات قديمة لم تعد مستخدمة وإنما يعني بحثنا عن الملاءمة المحلية. فهنالك عدة مصطلحات عامية محكية في عدد كبير من الدول الناطقة باللغة العربية لوصف ظاهرة الأشخاص الذين يقومون بفعل الـmansplaining ومنها أبو العُريف ومفلسف وغيرها. ولذلك فعلى كل عمل يسعى إلى الإنتاج المعرفي، سواء من خلال الترجمة أو غيرها، أن يكون عملاً مسؤولاً لا يمحي من خلاله الخطابات والإرث اللغوي الموجود في إطاراتنا المحلية.

يُعدّ إنتاجنا المعرفي عملاً سياسياً، وهو وسيلة لتغيير الخطابات السائدة ووسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي، ولذلك فلا بد لنا من إعادة النظر في ممارساتنا الترجماتية كوسيلة للإنتاج المعرفي، سواء كانت تلك الممارسات ترجمة مباشرة لأدبيات مكتوبة بلغات أخرى، أو كانت محاولة للإنتاج المعرفي الأصيل المعني بالمحل من خلال ترجمة الواقع. علينا السعي إلى أن نصبح مركز ومحور الإنتاج المعرفي، لا شيئه أو موضوعه. وعلينا أن نوجه خطابنا إلى الداخل بدلاً من توجيهه كردود فعل واستجابة للخارج أو لأجندات وأولويات ذوي وذوات السلطة. تنطلق مناهضة الاستعمار من بناء أطر معرفية خاصة بنا تعكس واقعنا وسياقاتنا ولا تجعل من الأطر الغربية المرجعية الأساسية لخطاباتنا التي تسعى إلى التغيير الاجتماعي والسياسي. ولن نتمكن من المضي قدماً في بناء يتسم بالديكولونيالية أي مناهض للاستعمار، إذا لم نغير بوصلة التغيير الاجتماعي والسياسي الذي نسعى له.

[1] استخدم مصطلح “بلا لون” في هذا      الإطار لوصف العرق الأبيض كموقف سياسي، يجعل من اللون الصفة السائدة على اللالون ولجعل اللون، بدلاً من البياض، المرجعية الأساسية لهذا الوصف العرقي الاستعماري في أصله.

لمشاركة المقال على

د.ة نور أبو عصب عالمة اجتماع نسوية حاصلة على درجة الدكتوراه (2012) من جامعة وارويك. نور أكاديمية ومهنية متعددة التخصصات، تتمتع بخبرة تزيد عن خمسة عشر عامًا في العمل على القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية في الجنوب العالمي.

انضموا الى الحديث