اللوحة للفنانة فريدا كالو تحت عنوان “مستشفى هنري فورد” 1932
لأكون صادقة مع نفسي أولاً، لا أعرف متى تحديداً جزمت القرار: أهو رد فعل على كوني أنتمي لعائلة كبيرة العدد، أم بسبب رفضي منذ صغري لكل ما تعنيه الأمومة والرعاية التقليدية والمفروضة مسبقاً؟ أم ربما كان تأثير طائفتي، بأن أتزوج رجلاً منها فقط، عاملاً ضاغطاً، جعلني أفكر في الزواج كأنه سجن مدى الحياة، مما دفع بقراري رفض شكل العلاقات التقليدية ونتاجها فيما بعد؟ أم يا ترى حصل ذلك في فترات رفضي لجسدي كامرأة أرادت ألّا تكون ملحوظة، بينما سيجعلها الحمل والأمومة ملحوظة أكثر، أم أنه الخوف من كل ذلك جملة واحدة؟
كنت أتلمس بطني بشكل دائري، أضع بعض الملابس ككرة بينما تسند يدي الأخرى ظهري، وأتلفت أمام المرآة يمنة ويسرة. خطوتان إلى الأمام، مثلهما إلى الوراء، أدور وتقع الكرة، أقهقه “بالطبع لا”. في طفولتي، مرات قليلة جداً فقط، حاولت أن أعيش لحظة تخيل أنني حامل وتطلعت إلى أن أكبر وأصبح أماً. في مراهقتي أثارت فكرة الإنجاب اشمئزازي، وفي عشرينياتي لم يعد الأمر يشغل تفكيري، بل بدأ كل من يحيط بي يسألني “كم طفلا تخططين أن تنجبي؟” و”أمّا لمن ستكونين؟”، بينما لم أفكر حينها بعد فيما إذا كنت أريد أن يحتل جسدي كائن آخر مدة تسعة أشهر ومن ثم يحتل حياتي مدى الحياة.
أحاول أن أفكر بجسدي كامرأة مع كل ما قيل لي من إجحافي للطبيعة الأم بعدم هوسي بأن أكون أماً.. أن أحمل..أن أنجب. تسبقني تجربتي بالحديث عن الإنجاب وتبعاته أكثر من التفكير بالإنجاب. أسقط في تفسير كيف لي ألا أكون معيارية[1] بدل أن أشعر بالحرية والغوص بذاتي من منطلق “جسدي ملكي”، لا أستغرب ذلك، بل حتى أنني أتسامح معه وأرجعه إلى كل تلك الضغوط المرئية وغير المرئية، الواقعة لعصور علي كامرأة ذات جسد راشد يمكنه أن ينجب. هنا، أجد نفسي منجذبة للتفكير كيف يكون الإنجاب سباقاً مع الزمن وفرصة وهمية لمشروع مشترك غير مقنع كفاية للارتباط وربط شخص وتكوين عائلة معيارية. ليتني أتوقف هنا.. يتداخل المنطق والشعور ويتسلل شعور “لربما ندمت”، فتتدفق الخيارات القليلة أمامي ويتداخل شعور الرغبة بالتفكير بالإنجاب مع الأمومة ويمتد لإدراك آخر الفرص: التبني. يفترض أنّ أسئلتي تساعدني على تفكيك الموضوع لا تعقيده، وجعله متداخلاً أكثر مما هو عليه. كيف يمكنني ذلك دون أن أحدق طويلاً فيما إذا كنت لا أريد أن أنجب فلا أكون أماً، أو أن أكون أماً دون أن أنجب؟ وهل يمكنني أصلاً التفكير بالإنجاب دون التفكير بالأمومة، وعندما تنتهي فرص الإنتاج الذاتي، ألا يبقى وهم القدرة على التبني ممكناً؟
الوصم
رأسي يصر على تذكيري بكل ما قيل لي ولأخواتي وصديقاتي وللنساء اللواتي لم ينجبن عن أن أجسادنا أرضٌ بور لأننا لم ننجب، بغض النظر أكان ذلك قراراً، عقماً، أو سوء حظ مع شريك. والأنكى، وبشكل مبطن، وصمنا بالغبيات لأننا لم ننجب أطفالاً يرعوننا حين نكبر، وبالساذجات لقبولنا علاقة دون إنجاب، لأن الشريك الرجل سيذهب لمن ستنجب له. ثم تأتي محاضرات الصديقات اللواتي أنجبن بأن الحمل والإنجاب رحلة جميلة جداً وأننا نفوت الفرصة بعدم خوضها ولكنهن، مع ذلك، يتذمرن طوال الوقت من أن لا أحد أخبرهن سابقاً بأنّ أجسادهن لن تكون لهن خلال وبعد الحمل، ولم يخبرنهنّ عن خسارتهنّ حريتهن واستحقاقاتهن بخبث من أجل أطفال لم يكنَّ متأكدات برغبتهن في إنجابهم.
أحاول العودة لنفسي، أنا اليوم في السابعة والثلاثين، أسأل كثيراً ماذا حصل للخطة القائلة: “في عمر الثانية والثلاثين سيكون القرار الحازم بالإنجاب قد صدر”. أعطيت نفسي تمديداً للرابعة والثلاثين، كنت في علاقة غيرية وشريكي حينها لم يكن يرغب في الإنجاب رغم انجابه سابقاً. لم يقل ذلك بكلمات صريحة، وفي سعيي في تلك العلاقة إلى حسم موضوع الإنجاب لم تدر نقاشاتي معه عمّا إذا كنّا نرغب بالإنجاب، بل كانت دائماً تحوم حول رؤيته أنني سأخسر حريتي بالإنجاب، وسيتغير كل شيء من نمط حياتي وعملي ليصبح أصعب، وأنني سأكون أسيرة ذلك القرار مدى الحياة. ولو قدر وكانت هناك موسيقى تلعب بخلفية نقاشاتنا تلك لكانت موسيقى Requiem in D minor الغامضة والمخيفة لموزارت خياري الأول. لم يكن هناك مساحة لأفهم شعوري، وكأن نقاش موضوع كهذا يجب أن يتسم بالعقلانية والمنطق خاصة معي أنا، النسوية ذات الشخصية القوية والمستقلة والمعتدة بنفسها.
في هذه اللحظة، استمع للموسيقى مرة أخرى، وأشعر متأخرة بالضغط النفسي الكبير لتلك النقاشات، مترافقة مع الكثير من التشكيك بقدرتي على تحمل المسؤولية في حال انتهت بالاتفاق على الإنجاب. أذكر كيف كان الاكتئاب يتسلل إليّ لعدم قدرتي على معرفة ما أريد والتشكيك بقدرتي على مناقشة الموضوع بشكل يعكس رغبتي الذاتية دون إسقاطات. تلا ذلك أيام من التحديق في اللامكان والنظر طويلاً في الفراغ الذي خلفته تلك المحادثات.
انتهت تلك العلاقة وسؤالي ظل عالقاً هناك لكن مع تراجع حاد باهتمامي بفكرة خوض التجربة تراجع. في بداية ثلاثينياتي، كنت دائماً أفكر في رغبتي بخوض تجربة الحمل والولادة ودائماً كنت أتصور أن الإرضاع أمر مؤلم جداً لم يكن ضمن تصوراتي الرومانسية للإنجاب، ولكن تلك الخيالات كانت تتكسر حين أصل لمشهد الولادة، بالأحرى ما بعد الولادة أي في اللحظة التي يتحول فيها خيالي للافتة كبيرة مكتوب عليها: يوجد فيل أبيض صغير في هذا المشهد وهذا الفيل سيلتصق بي. أفزع من فكرة الحبل السري، خاصة في دلالته الاجتماعية المثقلة بالحب غير المشروط والاحترام المطلق، وفي رأسي تترجم تلك الكلمات “عليك أن تكوني أماً صالحة”.
خطط أَخرى
أفشل في إقناع نفسي في الخامسة والثلاثين بموضوع الإنجاب، وتبدأ رحلة جديدة بالبحث عن خطط بديلة. أفكر بالخطة الأولى وهي التبني. فكرت بالأمر وناقشته مرتين لا غير، واستذكرت تجربة سابقة لسيدة في دمشق كانت تعيش في أمريكا عادت مع ابنها المتبنى ذي البشرة الداكنة، وكان الجميع يرمقهما بنظرات ريبة ودهشة واستغراب خاصة حين كانت تحضنه وتقبله والأدهى حين كان يناديها “ماما”.
المرة الوحيدة التي شاركت فيها صديقتي بأنني أفكر بالتبني بشكل جدي، وأنني أرغب بتبني فتاة ذات بشرة داكنة من منطق أن ذوي البشرة الداكنة هم في نهاية سلم الرعاية في ظل النظام الحالي، معتقدة أنني أفكر بطريقة نبيلة وأنني استخدم امتيازاتي بوعي، حتى اللحظة التي بصقت صديقتي رأيها في وجهي بأنني بذلك أمارس امتيازاتي بطريقة بشعة وأنه من الأفضل لي أن أفكر بتبني أطفال من سوريا تيتموا وأن هذا سيكون أنجع ثقافياً في المستقبل وأكثر نبلاً أولاً، سألت نفسي كامرأة ملونة ومهاجرة في هولندا لماذا فكرت بتحديد لون وجنس من سأتبنى؟ وثانياً هل ستفرق كثيراً من سأتبنى؟ تركت ذلك النقاش معلقاً حتى واجهت بعض الحقائق، أنّه رغم عيشي في هولندا وحمل جنسيتها ووجود عمل لدي وعدم معاناتي من أمراض وأنا في السادسة والثلاثين من عمري، أي أصغر من العمر الأقصى المطلوب للتبني (٤٢ عام)، فإنّ فرصي بالتبني ضئيلة تصل لصفر، فقط لأنني عزباء ولست على علاقة رسمية جدية حسب معايير الأبوية. وحتى لو كنت على علاقة، يجب أن تكون ل ٣ سنوات على أقل تقدير. واذا كنت في علاقة من ذات الجنس، غالباً ما سيرفض طلب التبني من البلد المرغوب التبني منه حسب موقع هولندي حكومي يشرح شروط ذلك.
من الجيد أن أعرف كل ذلك قبل أن يكبر الوهم، وأنه لازال لدي فرص إن تأخر الوقت واجتاحتني موجات الأمومة الضائعة في الأربعينيات، كما عبرت الكثير من صديقاتي الأمهات اللواتي تجاوزن الخمسين من العمر حين قلن نادمات “ لاتدعي العمل يأخذك، وفكري جدياً بالإنجاب قبل فوات الآوان”. حتى الآن يبدو أن حظوظي تصل إلى الصفر في التبني، كما أنّ تجميد البويضات ليس من اهتماماتي، خاصة بعد تكرار مناقشة هذا الخيار مؤخراً بين صديقاتي العازبات المقتربات من الأربعينات من عمرهن، في تلك النقاشات أبقى مستمعة دون الانخراط لطالما كان تجميد البويضات يعني أن أعود لأفكر بحفظ حقي بالإنجاب وهو أمر محسوم لدي، خاصة أن مبدأ التجميد وهو طريقة تُستخدم للحفاظ على قدرة النساء على الحمل في المستقبل ترافق بسلسلة من التحضيرات وإبر تحفيز المبيض والتكلفة التي تصل إلى خمسة آلاف دولار في بلد كلبنان، كما أنّ لها تبعات مجتمعية ودينية لا تعنيني بالدرجة الأولى ولكنها مرهقة: لابد من القول أن الاستماع أو البحث أكثر في الأمر فقط، يجعلني أشعر بالإنهاك وقليل من اليأس والتكسر لكثرة الاعتبارات التي يجب التفكير فيها قبل البدء بالفعل ذاته، هذا وأنا التي لا تأخذ الموضوع بشكل جدي، فقط أمر عليه كسائحة للتعرف. كل التضامن لكنّ أيتها الراغبات بالتجميد.
لحظة، أناقش هنا كيف لي أن أنجب أو أن كون أماً وماهي السبل والطرق لذلك قبل أن أصل لحظة “فات الميعاد”، بدل أن أفكر بـ: لماذا لا أريد أن أنجب رغم قدرتي على الإنجاب. مضحك ومحزن لنا نحن النساء، ندور وندور ونعود للتفكير أولاً بما هو متوقع وليس بما نرغب. أردت أن أكتب عن كوني لا إنجابية، ويبدو أنني كتبت عن كيف يمكن أن أكون انجابية وأصبح أمّا أكثر من السبب الحقيقي لكتابتي هذا النص. أصل للحظة إدراك أن نقاشاتي تأخذ هذا الشكل مع الآخرين حين أسأل لماذا لا أريد الإنجاب. أعتقد أنني بدل من قولي “ لا أريد الإنجاب، لا تغريني الفكرة، ولا الحالة، ولا أرغب بالحمل ولا الولادة، ولا يجذبني الأطفال الصغار، ولم أشعر يوماً أن لدي شعور أمومة، ولم ألعب دور أمّ لدمية وأنا صغيرة، وأحب استقلاليتي وحريتي وحياتي هذه، وأفضل الحيوانات الأليفة للارتباط بها على الأطفال”، الخ. بدلاً من ذلك، أكتب وأناقش لأبرر قراري بدلاً من الدفاع عنه، أو حتى قوله دون سلسلة التفكيك والغوص في عمق القرار وتحميله ما يرغب المجتمع بسماعه مني، بأنني استثناء كامرأة والأمر معقد لي وحدي.
متى وقع المحظور يا بنت؟
ليس لدى أدنى شك أن كل تلك الاعتبارات كانت ضاغطة ومحاصرة، ولكن أقترب الآن من تحديد بعض الأسباب الرئيسية لذلك القرار، في نظرة سريعة لمحيطي الشخصي المهني لآخر خمسة عشر عاماً، أقارن نفسي بمن يشبهنني وأجد أن نمط العمل المتشابه نقطة حاسمة هي كوننا ناشطات في الشأن العام، مديرات ومسؤولات عن فرق ومبادرات ومؤسسات، نزحن ولجئن ونفين، في منتصف العمر، أضعن الخط الفاصل بين الشخصي والعام. الحياة هي العمل، لا وقت للشخصي. تفاوت في شدة وتواتر موجات تأنيب الضمير وجلد الذات. الاكتشاف رويداً أن سنوات مضت في انشغالات نضالية استنفذت طاقة هائلة، الوصول إلى شفا الاحتراق مرات ومرات من كل شيء.
يبدو لي أنه لا يوجد سبب واحد فقط أستند عليه لفهم حسمي لقراري. تتقاطع أسبابي وظروفي فيما بينها وتطفو فكرة أن الحقبة السياسية التي أعيشها كوني سورية لها التأثير الأكبر على قراري هذا عند التفكير بشكل أعمق. حين رحل أخي شهيداً (كرمى لعائلتي أسميه كذلك)، فكرت لفترة أنني أريد أن أنجب طفلاً، أسميه أحمد. أختي فكرت بذات الشيء لكنها أنجبت طفلاً لم يوافق زوجها أن تسميه أحمد وأعطاها الوعد بأن الطفل الثاني سيكون أحمد لكنها أنجبت طفلة. تعندت وتصلبت الفكرة فيّ وشعرت بخيانتها ونبذت زوجها لذلك السبب، جميعنا في هذه العائلة المكسورة القلب ننتظر طفلاً لنعطيه اسماً يخلد ذكرى أخينا، أتراجع عن الإنجاب كلما كبرت سنة وكلما أصبح الفراق اعتيادياً. أتلمس بطني أشعر بألم الدورة الشهرية تقترب، أقول “بالتأكيد لا” لا أريد ذلك الألم ولا ذلك الإسقاط ولا حتى سجن حريتي لأكون أماً على وحدة قياس “الجنة تحت أقدام الأمهات”.
[1] أعرّف اللامعيارية بأنها “عدم الامتثال للتوقعات الجندرية والجنسية البطريركية و/أو الخاضعة للمعيارية المغايِرة، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، من يعرّفون أنفسهم/ن كمثليين/ات ومزدوجي/ات الميول الجنسية وعابرين/ات جندري اً وجنسي اً وكويريين/ات”، كما ورد تعريفها في مقال إقالة العدالة من المعايير السائدة: الدول كآلات للقمع.