
بينما يمكننا اعتبار التساؤلات حول علاقة النسوية بالصهيونية أو الصهيونية بالنسوية شرعية، إلا أن إجابة تلك التساؤلات ليست بديهية أو هيّنة، وخصوصاً في ظل الخطاب المزدوج الذي يروجه الاحتلال الصهيوني عن مواقفه نحو النسوية والنساء. في هذا المقال أسلط الأضواء على تلك الازدواجية بهدف دحض ادعاءات الاستعمار الاستيطاني فيما يخص النسوية والنساء، إذ بينما يسعى الاحتلال إلى ترويج صورته على أنه حامٍ لحقوق النساء والمثليين، يستخدم في الوقت ذاته مفاهيم ذكورية/أبوية يهدف من خلالها إلى تهميش النساء الفلسطينيات من صفوف المقاومة. وبينما يحاول غسل جرائمه بادعاءات الانفتاح والحريات الجنسية والجندرية، إلا أنه يستخدم مفاهيم “الطعن بالشرف” لإسكات النساء عندما يكون ذلك في مصلحته. في خطاب له باللغة الإنجليزية، أمام الكونغرس الأمريكي عام 2011، قال بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي: “في منطقة يتم فيها رجم النساء، وشنق المثليين، وإعدام المسيحيين، تقف إسرائيل؛ إسرائيل المختلفة”. بعدها بعشر سنوات نشرت آيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية) تغريدة بالإنكليزية على تويتر كتبت فيها “هل تدعم حقوق النساء؟ حماس لا تفعل ذلك. قف إلى جانب إسرائيل” للحصول على دعم الغربيين عبر تصوير دولة الاحتلال كدولة تحترم حقوق المرأة. في الوقت ذاته كانت القنابل الصهيونية تمطر بيوت قطاع غزة متسببة بقتل 35 امرأة و61 طفلاً.

تتلاعب الصهيونية بحقوق المرأة وتستخدمها من أجل تبرير قتل النساء بأشكال مختلفة، بينما تحاول في الوقت ذاته الظهور على صورة الحامية لحقوق النساء، وكأنها نسوية، بينما هي مجرد نسوية تنصب لخدمة المطامع والمصالح الصهيونية. فلم تتوانَ ماكينة العلاقات العامة الإسرائيلية خلال الأحداث الأخيرة عن ترويج الانفتاح الجنسي في صفوف مجنداتها. فقد ظهرت فيديوهات عديدة لمجندات إسرائيليات على موقع تيك توك يتراقصن فيها ويطلبن الدعم لدولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. ولم تخلُ حسابات الإنستغرام من صور مجندات بوضعيات جنسية تشيّئ وتجنس وتحول الجسد الأنثوي إلى أداة تخدم المنظومة العسكرية الاستعمارية، وليس هذا جديداً فهو الهدف من وجود المجندات أساساً، وهو تلطيف الوجه المتوحش لجيش الاحتلال الدموي. هذا ويحتفل الجيش بانتساب النساء إليه كل عام في اليوم العالمي للمرأة، إذ نشر أفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال باللغة العربية في 2017 أن 33% من المجندات الإسرائيليات يخدمن على الحدود.
وعلى الرغم من تلك الحملات الإعلامية، إلا أنه وبحسب شهادات العديد من النساء المجندات فقد شعرن أن دورهن في الجيش “زينة” للجنود الذكور، ويكشف هذا عن تمييز مبني على الجنس، بعكس الصورة التي يسعى الاحتلال إلى الظهور فيها. فعلى سبيل المثال، في عام 2007، استخدم تعاون بين مجلة الرجال الأمريكية “ماكسم” والقنصلية الإسرائيلية صوراً لمجندات سابقات يرتدين ملابس هزيلة، ويحملن بندقيات لتحسين صورة إسرائيل في الولايات المتحدة، ومن خلال ذلك يُسلِع ويجنس جيش الاحتلال أجساد مجنداته، مناقضاً بذلك ادعاءاته النسوية بهدف تحسين صورته الدولية والتستر على جرائمه الدموية.
كتب أحد جنود جيش الاحتلال على تويتر تحت صورة له وهو يدخن سيجارته، أنه دخن هذه السيجارة مباشرة بعد اغتصاب امرأة فلسطينية. وتقول مصممة الرقص الإسرائيلية رويت شيمش عن تجربتها في الخدمة العسكرية عام 2018 “نتعرض للتحرش جميعاً في الجيش الإسرائيلي بشكل يومي تقريباً”، وفي 2017 وفق إحصائية نشرت نتائجها صحيفة هآرتس أن واحدة من بين كل ست مجندات تعرضن للتحرش الجنسي داخل هذا “الجيش النسوي”.

معايير مزدوجة
بينما يشجع جيش الاحتلال النساء الإسرائيليات على الانضمام إلى صفوفه، يحرص بشكل دؤوب على تهميش النساء الفلسطينيات والناطقات بالعربية من الانخراط في المقاومة عبر استخدام مفاهيم أبوية/ذكورية تهدف إلى تحييد النساء من الشأن العام. فعلى سبيل المثال، في تغريدة عام 2018 لأفيخاي أدرعي سابق الذكر (429 ألف متابع/ة على تويتر)، كتب فيها “المرأة الصالحة هي المرأة الشريفة التي تهمها مصلحة بيتها وأولادها فتكون قدوة حسنة لهم. أما المرأة الطالحة، وعديمة الشرف فلا يهمها ذلك، فتتصرف بهمجية لا تمت للأنوثة بصلة غير مهتمة لنظرة المجتمع المستحقرة لها”. اتهم أدرعي الفلسطينيات في غزة بأنهن “عديمات شرف ومسترجلات” لأنهن يتظاهرن ضد الاحتلال مطالبات بحرياتهن، وإن المرأة مكانها بيتها ومهمتها الوحيدة رعاية أبنائها.
بينما نجد المقالات الإنكليزية المحتفلة بحقوق النساء في دولة الاحتلال تقتبس عن إحدى المجندات الإسرائيليات قولها “نحن نخدم في الخطوط الأمامية، نحن لا نقدم القهوة”. والمقال ذاته المنشور عام 2019 يذكر أن ضابطة أنثى كانت من أحبطت محاولة تسلل ثلاثة عشر “إرهابي” من حماس إلى “إسرائيل“. هذا وفي تلك التصريحات حول النساء الفلسطينيات تحريض للرجال ضد النساء في غزة، ولمنع النساء من الخروج في مظاهرات، وسلخ الأنوثة والشرف عنهن في حال خرجن، وبذلك أشعلت تلك التصريحات خوف النساء الفلسطينيات من الوصمة التي قد تلحق بهن. وفقاً لمعايير أدرعي، تعتبر مهيبة خورشيد ونريمان خورشيد – مؤسستي منظمة زهرة الإقحوان العسكرية النسائية في فلسطين عام 1947 – وليلى خالد – أول امرأة تختطف طائرة إسرائيلية عام 1969 – والمناضلة تريز هلسة وغيرهن كمخرّبات ومسترجلات لنضالهن ضد الاحتلال من أجل تحرير بلادهن، أما المجندات اللواتي يقصفن الأطفال والنساء ويضربن ويعتقلن الفلسطينيات فـ”مناضلات”.
فبحسب تلك المعايير، تعتبر المرأة الفلسطينية التي تحمل سلاحاً أو تتظاهر مخربة، لكن المرأة الإسرائيلية التي تحمل سلاحاً لقتل أطفال غزة أو لضرب وإهانة النساء الفلسطينيات بطلة. هذا بالضبط ما نشره أفيخاي في يوم المرأة عام 2021، ونشر فيديو لمجندات إسرائيليات[1] تظهر فيه واحدة تتحدث العربية وتقول “الهدف ليس التغلب على الرجال بل إثبات القدرات”. يا له من خطاب أبوي لا يمكنهم أبداً قوله بالإنكليزية، بل هم يدغدغون ويرسخون الأبوية بالعربية من خلاله، بما معناه أن المرأة لا يمكن لها أن تتغلب على الرجل. وقد كتب فوق الفيديو “ألف تحية لكل أم، أخت، زوجة، صديقة ومناضلة في يومهن العالمي الذي جاء ليعزز مفهوم القوة والجمال وأن لولاهن لما كنا نحن”، فهو يعتبرهن مناضلات لا مخربات لأنهن يقتلن النساء الفلسطينيات فقط.
هذا وقد استخدم جيش الاحتلال هذه الأساليب الأبوية منذ عقود، إذ تروي المناضلة اللبنانية سهى بشارة[2] في مذكراتها عن معتقل الخيام الإسرائيلي في جنوب لبنان، القصة التالية:
“شابة اعتقلت من دون أي سبب على الإطلاق، فأغواها أحد مستجوبيها. إذ توصل إلى إقناعها بممارسة الجنس معه، واعداً إياها بالزواج منها. فرضخت للأمر واقتنعت بصدقية الرجل، وبأن ذلك من شأنه تيسير تحريرها بلا شك. غير أنها سرعان ما اكتشفت أنها وقعت في الفخ الذي نصب لها، وأن بكارتها المفتضة إنما تجعلها عرضة لابتزاز متواصل، حتى في حال عودتها إلى كنف عائلتها. ثم إنها وجدت نفسها، فوق ذلك، عاجزة عن البوح لأحد بمسلكها المشين في نظرها” (بشارة، 2011، 160).[3]
وتروي المناضلة الفلسطينية رسمية عودة التي حكمت محكمة الاحتلال عليها بالسجن المؤبد عام 1970 وحررت بعد عشر سنوات في عملية تبادل أسرى، قصة تعذيبها الجنسي على يد الصهاينة الذين حاولوا إجبار والدها وخطيبها إلى جانب معتقلين غرباء على اغتصابها في المعتقل:
“هذا الأسلوب كانوا بستعملوه كورقة من أجل أنهم يحطوا حد لمشاركة المرأة في مقاومة الاحتلال لأنه جانب الشرف والدين هي قضايا كتير حساسة في مجتمعنا، وطبعا إذا الناس سمعوا هذا النوع من التعذيب رح يمنعوا بناتهم يشاركوا بأي شكل من أشكال النضال، يحبسوهم بالبيوت، الأب بده يحبس بنته والزوج بده يحبس زوجته والأخ بده يحبس أخته”.[4]
مؤخراً، وبعد أن أعلنت ميا خليفة اللبنانية ممثلة الأفلام الجنسية المعتزلة عن موقفها الداعم لفلسطين والمحتج على ما يحدث بحق أهالي الشيخ جراح وغزة، تنمرت عليها الصحافة الإسرائيلية الناطقة بالعربية مستخدمة عملها السابق كوصمة للتقليل من قيمة رأيها السياسي السديد، مستخدمةً مفهوم “الشرف” الأبوي مجدداً في إسكاتها، وكأنها إذا عملت في مجال الأفلام الجنسية فلا يحق لها أن تمتلك وجهة نظر سياسية، لأنها – في عين هذا الكيان الذي يدعي النسوية – “بلا شرف”. وهذا الكيان الذي يحرض ضد “الشرق أوسطيين” في الكونغرس باللغة الإنكليزية لأنهم “يرجمون النساء”، لا يتوانى عن التحريض ضد النساء “الشرق أوسطيات” باللغة العربية بكل عنف باسم “الشرف” والعفة وتعييرهن بتاريخهن الجنسي.
استخدامات أخرى
بينما لا يتوانى الاحتلال عن التقليل من شأن النساء الفلسطينيات المناضلات، إلا أنه لا يتردد في تبجيل بعض النسويات الناطقات بالعربية في حال كان ذلك مفيداً سياسياً للكيان الصهيوني أو لحلفائه، أو إذا كان بمقدور ذلك إثارة ردود أفعال ضد فئة معينة من النساء. في 2019 في اليوم العالمي للمرأة نشر أفيخاي صورة مكونة من شقين، الشق الأول للنسوية والمفكرة والكاتبة المصرية نوال السعداوي والثاني لمرأة من غزة تتظاهر ضد الكيان الصهيوني، وكتب “يا نساء غزة اتعظن من استقلالية هذه المرأة العظيمة [يقصد نوال السعداوي] ولا تسمحن لأنصار حماس بأن يقرّروا لكنّ ما تفعلن”. في خلق تلك الثنائية ما بين نوال السعداوي ونساء غزة المناضلات، يدفع االاحتلال نحو قمع النساء وإقصائهن من ساحات النضال والتظاهر، وكأن النضال للرجال فقط، وعلى المرأة أن تقرأ وتكتب وتحتسي الشاي. ويجعلنا ذلك نتساءل، ما هو سبب تفضيل نوال السعداوي على غيرها من النسويات في المنطقة؟ ويجعلنا نسأل هل لذلك الدعم علاقة بكون نوال السعداوي مدافعة عن نظام السيسي التي أنكرت ارتكابه أي انتهكات بحق نساء مصر، ولأن نظام السيسي حليف لدولة الاحتلال؟
في ظل تسليط الضوء عالمياً على كل الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني عموماً، والنساء الفلسطينيات خصوصاً، يراهن الاحتلال اليوم بشكل كبير على تلميع صورته أمام المجتمع الدولي ككيان نسوي، حتى يحصد تعاطف الغرب الليبرالي ويشتت الانتباه العالمي عن تلك الانتهاكات والجرائم.
فالنسوية الصهيونية هي نسخة من النسوية مبنية على ثنائيات أبوية تحمل بين طياتها العديد من التناقضات والازدواجيات، بحيث تبرر وترسخ المشروع الصهيوني الاستيطاني من خلال تشويه وتحريف مفاهيم مثل حقوق المرأة والمساواة في ما تسميه الناشطات النسويات بالغسيل الوردي والبنفسجي، فالصهيوني “نسوي تقدمي”، بالتالي تبرَّر جرائمه، بينما الفلسطيني “ذكوري متخلف”، بالتالي تبرَّر الجرائم ضده، والمجندة الصهيونية “بطلة”، وفي المقابل المناضلة الفلسطينية “مخرِّبة”، ناهيك عن التناقض بين كيفية تصوير جيش الاحتلال كجيش نسوي – على الرغم من حقيقة التحرش وتجنيس وتسليع أجساد مجنداته في الإعلام – والتناقض بين الترويج لحقوق النساء بالإنكليزية، وبين ترويج مفاهيم الشرف والعفة بالعربية، بما يُقصي النساء الفلسطينيات من ساحات النضال ويحبسهن في البيوت. وبذلك تكون النسوية الصهيونية نسخة عنصرية عسكرية استعمارية من النسوية.
[1] أفيخاي أدرعي، توتير 8 آذار 2021.
[2] حاولت اغتيال أنطوان لحد قائد جيش لبنان الجنوبي المتعاون لإسرائيل عام 1988 وبقيت في المعتقل لمدة عشر سنوات.
[3] سهى بشارة، أنطوان أبو زيد، مقاومة، دار الساقي بيروت، ط4، 2011، ص160.
[4] عرب لطفي، مرآة جميلة، 1993.