“نحنا موجودين وبدنا نثبت إنه نحنا موجودين”
قيلت الجملة على لسان امرأة كويرية في شوارع لبنان الثورة لكاميرا الإعلام الحليف، وشعرت بها ضبابيّة وتحتمل التّأويل. لم أستسغ القول ودبلجته الإنجليزية وإن لم أستطع حينها تحديد سبب الانزعاج. ما الذي يعنيه أنّنا نودّ أن نثبت وجودنا؟ فنحن لسنا طائر عنقاء أو أبو كيس أو غولة عليها أن تثبت أنّها ليست كائناً خياليّاً. لو كان السياق حلم أحمدي نجاد الاستبداديّ، الذي صرّح بعدم وجود أشخاص كويريين، مثليين ومثليات تحديداً، في إيران، لردّدت نعم، نحن موجودون/ات، ولردّدت ذلك لإزعاج الدكتاتور ونقض خطابه. ولكنّ سياقنا هو لبنان المستحوذ في أماكن عدّة على الموارد والخطابات المرافقة للوجود الكويريّ في البلدان الناطقة باللغة العربية، لدرجة أنّ الحكومة نفسها والسياسيين المعادين لغير الرجال الممتثلين جندرياً والمغايرين جنسياً يعترفون بوجود الكويريين في كلّ المساحات، بل أكثر. يصل بهم الأمر إلى تخيّلنا في سيناريوهات لم نعشها على سبيل تخوين الثورة: يروننا ننصب خياماً في الشوارع لممارسة الجنس أو نسقط الحكومات لتشريع الشذوذ. لا، هم ليسوا بحاجة لإثبات وجودنا. على العكس تماماً، ربّما يعطوننا قدراً خياليّاً من الملكيّة على الخطاب والفعل الثوري، قدراً لا نتجرّأ ولا نسمح لأنفسنا بالاستحواذ عليه. لم نكن شعلة بداية الثورة، وانضممنا إلى الشوارع كما انضمّ إليها الملايين، في الامتثال للنمط وفي الكويريّة، وفي مطالب جمعتنا وفرّقتنا. نحن لا نستولي على الثورة ولا نزعم أنّها من خلق مجتمع الميم، بل ذلك زعم الحكومة – والحكومة التي ليست بحاجة إلى أن نذكّرها بوجودنا: نحن موجودات/ين ولسنا بحاجة لأن نثبت ذلك.
خطاب الدّولة
هوس الحكومة بوجودنا ليس جديداً، فهو باب مفتوح على مصراعيه للهجوم المجّاني على كلّ ما خرج عن “الطهرانيّة”. مثلاً، أتى إعلام الدّولة مشكّكا في شرعيّة الثورة مصرّحاً بانعدام النقاء السياسي فيها، لأسباب تتعلّق بجنسانيّة الثوار مثل ممارسة الجنس خارج إطار الزواج أو “الشذوذ” الجنسي. فرأينا شربل خليل، مثلاً، قائلاً على محطة الـ OTV، أنّ الفنانين والإعلاميين المشاركين بالثورة يهدفون بحال نجاحها لأن يقرّوا قوانين تسمح لهم بمثليّتهم الجنسية. كما صرّح الاعلامي جوزيف أبو فضل أنّ الثوار “بدهم يعملوا زواج المثليين في لبنان كمان: هيدول اللواط الدواعش، هيدول ممنوعين كلهم والمثليين. إذا الحراك بدّه يسمح للواط وتغيير الجنس، كيف بدّي اسمح فيه؟” يصل وجودنا إلى صفوف داعش حسب رأي الجِّهبذ أبو فضل الذي جمع بين فئتي “اللواط” و”الدواعش” بسهولة ودون مقدّمات، والأجدر كان له أن يقول بكلّ بساطة: “جايين ينيكونا”. ذلك أنّ وجه الشبه في مقاربته هو خوفه من كلا الفئتين. نحن موجودون وموجودات، إذن، بقوّة، في الشوارع وفي مخيّلات رجال السياسة وأبواق السّلطة من الإعلاميين الذين لا ينفكّون يتحدّثون عنّا ويخوّنوننا. ولكنّ الأعمق من مجرّد التّنابز بألقاب اللوطيّ هنا والسّحاقية هناك، وهو التخوين على أساس طهرانيّة الطبقة والمواطنة، إذ طالما كان استهداف الأشخاص الكويريين في لبنان مبنيّاً على حالاتهم الاقتصادية والمواطنيّة، خاصّة في علاقة بالهجرة واللجوء، لا على مجرّد اختياراتهم في النّيك.
إذا نظرنا سريعاً إلى الاعتقالات والتّهديدات التّي حصدت ضجة أكبر في قضايا لبست عنواناً هويّاتيّاً يربطها بمجتمع الميم، سنرى النمط واضحاً. سنة الـ 2012، قامت محطة MTV الإعلامية اللبنانية ببثّ برنامج “انت حرّ” حيث ترصّد المقدّم رجالاً واستدرجهم إلى سينما بلازا لممارسة الجنس ومشاهدة الأفلام الإباحية. بعد هذا التقرير، قامت قوات الأمن الداخلي بغارة على قاعة السينما المهجورة تلك، والموجودة في منطقة النبعة العسيرة. ومن خلالها، اعتقلت الكثيرين من الرجال من الطبقة العاملة واللاجئين وامرأة عابرة جندريّاً تحت زعم ممارستهم/نّ للجنس الخارج عن الطبيعة. بعد قيام المحطات المنافسة والمنظمات الحقوقية والنشاطية والمجموعات القاعدية العاملة على العدالة الاجتماعية في لبنان بالدعوة إلى مقاطعة قناة الـ MTV، تراجع مديرها التنفيذي عن الضجة المرتكزة على الإثارة والتي اعتمدتها محطّته، معلناً أنّ التقرير كان عن “الفجور في الأماكن العامة” لا عن “المثليين”، مفرّقاً بينهم وبين “الشواذ”، أي رابطا الشذوذ بالفجور والطبقات المهمّشة، مقابل ربطه كلمة “المثليّة” بالاحتراميّة الموصولة بأولئك الذين لديهم مناليّة هذه المصطلحات وبإمكانهم ممارسة الجنس خارج الطبيعة وداخلها وما وراءها، فهم ليسوا بحاجة إلى البنايات المهجورة. أعقبت هذا الحدث غارتان مشهورتان هما إغلاق ملهى ليليّ اسمه Ghost في سنة 2013 وحمّام الآغا في سنة 2014. في كلّ هذه الحالات، كان المتأذون الأساسيون، أو من اعتقلوا بسبب مثلية مزعومة، رجالاً مهاجرين ولاجئين من الطبقة العاملة ونساء عابرات.
حين يخوّن إعلام الدّولة الثورة بسبب خروجها عن الطهرانيّة والنقاء السياسي لأنّها تشمل أشخاصاً مختلفين في الجنسانيّة والأداءات الجندرية وحالات الهجرة واللجوء والطبقة، فهو لا يفعل ذلك اعتباطيّاً أو على سبيل جمع ما لا يجمع. على العكس تماماً، هو مدرك لتواصل هذه الصراعات إحداها مع الآخر، وأنّها سويّة تقهره، لأنها، مجتمعةً، طرح لمشروع بديل، لعدالة شاملة لا نستمدّها من التحكم الحيويّ للدولة في حيواتنا وأجسادنا وأوراقنا التي تسمح لنا بالعيش أو تسهّل موتنا. تدرك الدّولة، وإن كان ذلك على مستوى غريزة الخوف والبقاء فيها (لا ذكائها طبعاً)، أنّ هذه الصراعات مرتبطة وتهدّد وجودها في ارتباطها ذاك، لا فرادى. وللعجب، هذا أمر لا يدركه خطاب الإعلام الحليف الواقع في فخّ القضيّة الواحدة وسياسات الهويّة. فيصيح إجابة على نعت جبران باسيل باللوطي “لوطي مش مسبّة” إلى أن تحمرّ خدوده وتظهر عروق رقبته. أمّا حين يرمينا خطاب الدّولة بكلمة “مندسين“ سوريين وفلسطينيين ومهاجرين وعاملات وعاملين تحت نظام الكفالة، فيلتزم الصّمت. ذاك أنّ الوجود الكويريّ في الساحات فخر، إنّما اندساسنا الطبقي والعرقي فلا تبرير له.
خطاب الإعلام “الحليف”
على عيني وراسي موجودين. ولكنّ الخطاب المتشدّق بوجودنا هكذا، على سبيل رسملة الاختلاف عن النّمط، يحجّمنا بقدرته الاستيعابية لكي يلطّفنا ويجمّلنا من أجل الغايات الاستهلاكية للخطاب العام. هذا الخطاب ليس حليفاً أبداً لقضايانا، لأنّه تمثيل مسطّح للوجود الكويريّ في الساحات غاب عنه تاريخ استخدام الأشخاص المحسوبين على الكويريّة لأهداف تصفية الفقراء والعابرات والمهاجرين واللاجئين من المساحات العامّة. هؤلاء من نحتاج إلى وجودهم بشدّة، لأنّ الحملات الصليبيّة اللبنانية لم تكن على الكويريات/ات بقدر ما استخدمت المثلية والعبور الجندري لتبرير اعتقالات تميّزت بالعنصرية والطبقيّة. فليس النّجاح أن تكوني لبنانيّة من طبقة غنية وذات امتياز يسمح لك بالظهوريّة كامرأة مثلية في الحيّز العام – خارج جزئيّة كونك استرددت هذه المساحة من رجل مثليّ ما. النّجاح هو أن نتيح هذا الحيّز للممنوعين/ات منه. أن نحتفل بوجودنا الكويريّ هكذا خارج تاريخ استخدام قضايانا لإنتاج الفروقات الطبقية والعرقيّة لا ينفعنا بشيء. على العكس تماماً، هو ناتج عن حكومة وسياسات تستهدف المحرومين والعزّل، وناتج كذلك عن تسخيف وتسطيح الطموحات الكويرية وما تحمله من إمكانات ثوريّة. لدى الطموحات الكويرية أشكال لا جنسية ولا جندرية، باعتبار الكويريّة منفذاً للخروج عن النّمط السائد والبناء المجتمعي المفروض علينا: قد تكون هذه الطموحات اجتماعية وسياسية ومناهضة للعنصرية والاستعمارية، قد تكون على مستوى الجسد أو الدولة أو البيئة. قد تكون كلّ ذلك سويّة. بدلاً من إيفائها حقّها، تمّ تلخيص طموحاتنا في مقاطع صوتية مثيرة مع موسيقى دراماتيكية عن وجود أشخاص ذوي ميول جنسية لانمطيّة وتعابير جندرية لامعياريّة على كوكب لبنان. كأنّما طرح الوجود هذا يجيب على سؤال يوجد فقط في مخيّلة القائمين بهذا التمثيل: “هل هناك وجود لأشخاص كويريات/ين في الثورات؟” أم هو “في الشّارع؟” أم هو “في البلد؟” الله أعلم. ما أعلمه هو أنّ الطرح يجيب على سؤال لم يطرحه أحد، اللّهم طرحته مخيّلات المستشرقين. هو سؤال أقلّ ما يقال عنه أنّه غريب، تماماً كعنوان الندوة المشهورة “هل المرأة إنسان؟” الذي لم أكن واعية قبلها بوجوب إثبات بشريّتنا كنساء للعقل الفذّ الذي يخالنا ننتمي إلى فئة النباتات أو الحيوانات (دون البشر) وربّما المخلوقات الفضائية أيضاً. تماماً مثله، يضعنا الإعلام “الحليف” للمثلية أمام السؤال أعلاه: سؤال أغبى من الغباء، لا ندري من جمهوره، ولا سبب طرحه بفخر كأنّه يستحقّ البتّ فيه. هذا التّمثيل للكويرية في الثورة ملغوم، له مضاعفات ليس الغثيان سوى أوّلها.
أوّلاً، وجودنا ليس جديداً على الساحات. نحن لم نظهر من العدم كما يحلو للأسطورة أن تقول في احتفالها بهذا “الحدث”. تبنّي هذا الخطاب يظلم تواريخنا النّضالية. نحن لسنا كياناً “آخر” غريبا عن مجتمعه، يمرّ عبره ولا يعيش فيه ولا يكون منه. نحن بنات وأبناء هذا المجتمع، نمشي في طرقاته، نعيش في بيوته، ندرس في معاهده. نحن عاملات في المصانع، أمّهات لأطفال نصارع لإعطائهم الجنسية والحياة الكريمة، مرضى نحتضر من خصخصة الطب، وممرضات طردنا ونعتصم على أبواب المستشفيات. نحن لاجئون ولاجئات أمام بناية الأمم المتحدة، عاملون على الحدّ الأدنى للأجور، متظاهرون ومتظاهرات في كلّ بيت وفي كلّ قضيّة. وليس بالضرورة لنا أن نتشدّق بالكويريّة أو نلبس الأحرف المتفرّقة الدالة على جنسانياتنا وميولاتنا وآداءاتنا المختلفة متى طالبنا بالعدالة. ثانياً: لا، نحن لم نخرج إلى الشارع من قوقعتنا في السابع عشر من تشرين السنة الماضية لنعلن الوجود الكويريّ رغم أنف المموّلين والمنظمات غير الحكومية وإعلامها الحليف. لم “نخرج” لأنّنا لم نكن في “الداخل” مقابل هذا الخارج. لم نخرج “أخيراً” مع هذه التنهيدة المتنفسة الصعداء المحتفلة بنا. فلهذا الاحتفال نتانة الفيتيشيّة، بعد أن لم يعد الاحتفال بـ”خروج النساء من البيت” في عوالمنا الناطقة باللغة العربية كافياً، لأنّ الخطابات النسوية نجحت في قتل البهجة المستشرقة والمحتفلة بمخيال “المرأة العربية المتحررة”، وقد حان أوان قتل بهجتهم بكويريّتنا كذلك. ثالثاً، قد لا نجد صدى أصلاً في هذه المعلّبات الهوياتية التي تسلبنا التّعقيدات والمستويات العديدة التي تكوّن ذواتنا، جاعلة منّا علباً فارغة. “ثورة على النفس” كما قالت إحدى هذه التمثيلات وترجمت كـ”ثورة للشفاء الذاتي” إلى الإنجليزية لكي تبدو أقلّ سطحية من الطرح الأصليّ. هذه المعلّبات الهويّاتية تعتبر أنّ الثورة ليست على آليات وهيكليات قمعيّة، إنّما صراعاتنا فردية ومرتبطة بمدى شطارتنا. رابعاً، في سياق يعتمد إظهار الكويريّة وإخفاء الصراعات الطبقية والعنصرية وتلك المتعلّقة بالهجرة واللجوء، علينا أن ننتبه من التّآلف بين مواقف حبّ الكويرية من جهة والصمت عن الصراعات الأخرى من جهة ثانية، لأنّه يتحوّل بسهولة إلى أرض خصبة للاستعمال الجزئيّ لقضايا الجندر والجنسانية لتبرير أو محو الظلم الواقع على أسس أخرى، خاصّة على الأجساد المعرقنة، أو ما يسمّى بالقومية المثليّة. فهي ظاهرة وممارسة لا تحصل في الغرب فقط لتبرير السياسات المعادية للهجرة وللمسلمين، بل نراها في بلداننا متى احتفل بالمثلية كمرادف للتقدمية في سياق المواطنة وتمّ اعتبار قضايا “الآخرين” و”الأخريات” خالية من العنصر التقدّميّ أو تمّ تصميتها بكلّ بساطة. وأخيراً، والأهمّ، بالإضافة إلى فيتيشيّته وتغريبه لنا وتسطيحه لنضالاتنا وكينوناتنا، فإنّ هذا الخطاب الذي لا أجرؤ على تسميته حليفاً، يغيّب التقاطعات التّي يجب أن نفكّر فيها في اللحظة الثوريّة.
التقاطعات المغيّبة ومأزق القومية المثلية
ليس بإمكاننا تصوير الثورة بأمانة دون الحديث عمّا سبقها من العنصرية المتزايدة بالاطراد، وما تبعها من عنصريّة مضاعفة. لا يمكننا نكران أنّ الثورة في لبنان اندلعت في وقت جوهريّ خدم التواجد المطلبي في الحيّز العامّ وخلق ذروة أو انشقاقا في الركود أو لا مرئية الحراكات المختلفة. كان حراك المخيمات الفلسطينية الأهمّ والذي أربك الجميع بما فيهم الدولة واللبنانيين بإظهاره لطروحات سياسية أبعد من مطلب الحقوق المدنية وحده، ليتخيّل طرق إدارة وتنظيم في اقليم لبنانيّ الهوية وشامل لأشخاص ليسوا لبنانيين وليس بإمكانهم “العودة من حيث أتوا”. إنّه مأزق للسلطات ومساحة ثورية من شأنها أن تحرر جميع القاطنين في هذا الإقليم. كما برزت إلى العيان بطريقة فجّة، طريقة الحياة أو الموت، قضيّة العمالة السوريّة المسترخصة والتي لا تخلو معاملتها من العنصرية الممنهجة في مؤسسات الدولة والمتبنّاة في المخيال اللّبنازي العام، لدى مقتل الإبراهيمين، إبراهيم يونس وإبراهيم حسين، وهما عاملان سوريّان كانا نائمين في بناية حرقت في وسط البلد، في نفس المساحة التي استولت عليها شركة سوليدير وهجّرت أهاليها لتعصرنها وتجعلها مركزاً للرساميل. هناك، نام الإبراهيمان في بناية جديدة قيد البناء لأنّ قانون العمل لا يحميهما والعنصرية تزيدهما شقاء. ربّما لم يسعهما الاستئجار لأنّ ثمن المياومة بخس لا يكفيهما طعامَهما. ربّما لم يسعهما الاستئجار لأنّ الجيرة لا ترحّب بالسوريين. لا نعرف التّفاصيل. ما نعرفه أنّهما ضحيتا الاستغلال، وكنت سأقول شهيدان للثورة، ولكنّهما لم يطلبا الشّهادة فلن أفتعل رومانسيّة لتلك الكارثة: لم يسعهما حتّى النّوم في هذا البلد. وغيّبهما هذا البلد من تعداد قتلى الثورة، رغم كونهما أوّلهم، ذاك أنّ العنصرية لا تسمح لهما لا بالحياة الكريمة ولا الاحترام اللائق لدى الموت (أو القتل). إن لم تحمل خطاباتنا الكويرية كلّ هذه السياقات والتّعقيدات وإن صمتت عنها بكلّ بساطة، فهي تخذل العدالة التّي نريدها وتدعم الصبغة الحيويّة للرأسمالية وسياسات الهوية التّي تعتبر حيوات معيّنة جديرة بالعيش (والحقوق المدنية والسكن والنّوم وغيرها) وأخرى جديرة بالحرق حيّة.
لا أدّعي هنا أنّ علينا اسكات كويريّتنا وإخفاؤها أو جعلها ثانوية تأتي بعد القضايا الأخرى. لا، ولا أدّعي أنّ الأشخاص الكويريّين لا يريدون الظهوريّة أو أنّهنّ لا يمارسن الانكشاف ليعبّرن عن هذا الجزء من ذواتهنّ أو ذواتهنّ الكاملة. جلّ ما أقوله أنّ الاحتفاء الحاف بنا في وسائل الإعلام، مجرّداً من كلّ تعقيدات المطالب الثورية والسياق اللبناني المليء بقضايا الجنسية والهجرة واللجوء، يغفل القضايا والخطاب الذي من شأنه أن يحرّرنا في أحسن الأحوال، ويستعيد الخطابات التّي من شأنها أن تدعم أفكار النّقاء “التقدمية” أو الليبرالية والغافلة عمّا تنتجه من قوميّة مثليّة. الثورة فعلاً وقت للحديث عن كل الصراعات ورفع سقف المطالب، ولكنّ الرومانسيّة في تصويرها كفرصة يتيمة وحيدة لن تأتي غيرها لرفع مطالب نسوية متعلقة بالكرامة الجسدية والعدالة الإنجابية وتملّك أجسادنا وأفكارنا واستقلاليتها عن الأبوية، لا يأتي بثمار. على العكس تماماً، ذلك يسيء إلى تواريخنا المشتركة ويلغيها فوق ما هي ملغاة ومسكوت عنها. فأن تساهم جهات إعلامية أو حقوقيّة في خطاب “الأوّل مرّة” و”أخيراً” هذا هو أن تساهم في إخفاء صراعات تراكميّة خضناها ولا نزال نخوضها. لقد رفعنا كلّ ذلك من قبل في لحظات لم تكن ثورية وقُوبلنا بالعنف، ولا نزال نرفعه أثناء الإحباط العام الذي نعانيه في زمن الوباء، ورفعناه الأمس وسنرفعها غداً، لأنّ القدرة على إحداث التغيير الجذريّ لا تأتي من الاستهلاكية والاحتفالية بهوّيات جاهزة. وعليه، خصوصاً في سياق هذا البلد الذي يستخدم الاختلاف الجندري والجنساني لِمراكمة الرّساميل، وفي سياق هذه الثورة التّي أظهرت، من خلال التفاعل الشعبي مع القضايا التي صرخت بها الحناجر، بصيص مساحات عضوية أو شروخاً لا طائفية لا عنصرية لا تمييزية داخل محيط البلاء العام، لن نرضى باستبدال خطاب الدولة المعادي للكويرية بخطاب “حليف” لها يستخدم وجودنا وأصواتنا وصورنا لتعزيز سياسات الهويّة ودعم القوميّة المثليّة، وإن كان ذلك عن غير قصد.